(1)
المشهد
بدأ الأمر ونحن نشاهد قنوات التلفاز في المقهى وهي تنقل صوراً حية عن الثورة في القرى المجاورة، وتساءل الجميع أنه لطالما عندنا تلك الظروف المشابهة لماذا لا يكون عندنا ثورة نحن أيضاً.. وتشجع البعض الآخر أيضاً للفكرة من مبدأ “ما حدا أحسن من حدا”، آخرون رؤوا في التغيير وسيلة لتحسين أوضاعهم المعيشية، السواد الأعظم من العاطلين عن الفعل أعجبتهم الفكرة للقيام بشيء بدل الجلوس في البيت.. وانتقل الحديث من شخص إلى شخص حتى عمّ أرجاء القرية بأكملها.. ولأننا شعب نحب النسخ واللصق فقد قررنا أنه سيكون عندنا ثورة يوم الجمعة القادم حتى لا تسبقنا بقية القرى في هذا المجال.
(2)
الوضع الخاص
واجتمعنا يوم الخميس في المقهى لنضع شروطاً للثورة فنحن لا نريد أن تكون ثورتنا عشوائية وغوغائية بل منظمة ومرتبة تظهر لبقية القرى القريبة منا وتلك التي خلف الجبال بأننا شعب “ديموقراطي” ومنظم و”نعرف ماذا نريد”.. وتحدث الجميع، الجميع على حدٍّ سواء، وأخذنا بكتابة ما تعلّمناه من تجربة بقية القرى التي خاضت تلك التجربة ووضعنا نقاطاً حمراء وأخرى خضراء وثالثة صفراء حتى يتم الالتزام بها أثناء الثورة.. فنحن وضعنا “خاص”..
وبالمناسبة تكررت هذه الجملة “نحن وضعنا خاص” عشرات المرات في خطب المتحدثين ولذلك كان لزاماً علينا أن نضع نقاطاً حمراء وخضراء وأخرى صفراء من أجل أن نعالج هذا الوضع الخاص ونقلبه لمصلحتنا رغم أننا لم نكن نعرف لماذا “وضعنا خاص” أو ما الذي يجعله “خاصاً” إلى هذا الحد فنحن لم نكن ندرك هذه “الخصوصية” حتى تحدث بها المختار ذات مرة.. ومع ذلك لم نكن نفهم ماذا تعني..
(3)
الساحة
وبقي شيء واحد ينقصنا “الميدان” أو “الساحة”.. إذ لم يكن في القرية كلها ساحة تدعى “ميدان التحرير”..
احتدم الجدال في تلك الليلة عن الساحة التي يجب أن نقوم بنصب الخيام فيها أسوة ببقية القرى، رغم أن القرية كان فيها أكثر من خمس ساحات لكن للأسف كلها تحت اسم المختار وأبنائه ومساعديه.. لذلك لم يكن من المناسب أن نقوم بثورة في ساحة باسم “ساحة المختار”.. واقترح فريق من المتحدثين إلغاء الثورة لأن عواملها غير متوفرة حالياً فليس عندنا ساحة باسم “ميدان التحرير” أو “ساحة الحرية”.. وكدنا أن نلغي الثورة لولا أن خرج “ذو البدلة البنية” ذو الوجه المتجهم واقترح أن نغير اسم “ساحة المختار” الكبيرة إلى “ساحة الحرية” كخطوة أولى نحو التغيير.
وبالفعل لاقى اقتراح (ذو البدلة البنية) الاستحسان وعاد الجميع إلى طاولاتهم يحتسون الشاي ويشربون النرجيلة واستعدينا للنزول إلى تلك الساحة يوم الجمعة القادم في الساعة الثامنة صباحاً حتى يكون الجميع قد استيقظ.
(4)
الشعار
في اليوم التالي وفي تمام الساعة الثانية عشرة والنصف كنا قد اجتمعنا في الساحة، التوقيت لا يهم المهم أننا اجتمعنا. وامتلأت “ساحة الحرية” – “ساحة المختار” سابقاً – بالناس وكأننا في يوم الحشر، وبقينا هناك حتى الساعة الثانية والنصف ونحن لا ندري ماذا نفعل، حتى صرخ (ابن أبو حدو) الذي كان يدرس في المدينة بأنه “يجب أن نطالب بحقوقنا عن طريق الشعارات”.. وهاجت الجماهير وماجت ولاقى كلامه استحساناً كبيراً، هكذا يفعلون في الثورات غالباً ينادون بالشعارات أليس كذلك..!!
وبدأ الجميع يصرخ – كلٌّ على حدة – بالشعارات التي يعرفها: “أصابيع الببو يا خيار”.. “مازوت.. مازوت”.. “غاز.. غاز”.. “قرّب عالطيب قرّب”.. “ذرة بيضا.. ذرة بيضا..”.. “طازة يا كوسا..”.. “بلدية يا البندورة”..
صرخ (ابن أبو حدو) مرّة أخرى: “ليست هذه بشعارات.. نريد شعارات سياسية.. شعارات حقيقية”..
سكت الجميع.. واتفقوا أن ينادوا بشعارات حقيقية.. وبالفعل بدأنا مرة أخرى ننادي “بالروح بالدم نفديك يا مختار”.. “الله والقرية والمختار وبس..”.. “نعم.. نعم.. نعم”.. “إلى الأبد.. إلى الأبد.. أيها المختار..”..
لكن يبدو بأن هذه الشعارات السياسية لم تعجب صاحب النظارة السميكة فصرخ للمرة الثالثة “هذه الشعارات مؤيدة للنظام، نحن نريد شعارات جديدة ضد النظام ومن أجل التغيير..”.. تململ الشعب من حديث (ذو النظارة السميكة) إذ لم يكن يعجبه العجب.. وانهالوا عليه بعد قليل بالضرب حتى أغمي عليه..
(5)
الحريق
في المساء قرّر (ذو البدلة البنية) أن يلقي كلمة بالمناسبة وتم فسح المجال له ليلقي كلمته أمام الجميع.. الآن يستطيع الجميع أن يتحدث بما يشاء فهذا “عصر التغيير”.. صعد (ذو البدلة البنية) على أكتاف الناس وصرخ بهم:
“نحتاج أن يقوم أحدهم بحرق نفسه.. هكذا هي العادة في الثورات هذه الأيام.. الحرق لا يعني الضعف والاستكانة.. لا يعني الذل.. بل هو قمة الشجاعة.. وقمّة القوة والصلابة.. هي رسالة رمزية واضحة لا تحتاج إلى فك طلاسمها.. هي خطوة للأمام.. هي درس..”.. ضجر الناس من حديثه الغير مفهوم لكنهم قرروا بأن يجب أن يقوم أحد ما بحرق نفسه لتنجح الثورة..
قمنا بفسح مكان في الساحة للذي يريد أن يتقدم.. وقمنا بجمع تبرعات من أبناء القرية لشراء غالون من المواد الحارقة.. البنزين غالٍ لا يمكن توفيره والكاز أيضاً لذلك قررنا أن نشتري مازوتاً..
بعد جمع التبرعات قمنا بشراء ليتر من المازوت هو أقصى ما استطعنا جمعه من المال.. ووضعناه في المكان الذي سيقوم ذلك “الأحدهم” بحرق نفسه.. وانتظرنا.. وانتظرنا كثيراً.. ومرّت خمسة أيام لكن لم يتقدم أحد..
خرج ذو البدلة البنية مرة أخرى وأخذ يحث الناس على الثورة والموت في سبيل الثورة وحرق أنفسهم.. زهرة زوجة صالح برجوازي القرية السابق صرخت بالناس: ” ليك أخوي:إذا كان بدك من شي واح يحرء نفسو منشان هي اللي بيسموها ثورة ليش مابتحرء انت حالك “.. ولاقى كلامها قبولاً كبيراً.. لكن ذا البدلة البنية قال بخبث: “إن كنت سأحرق نفسي فمن الذي سيرسم خطوط الثورة ومن الذي سيعلمكم الثورة.. ومن الذي سيرشدكم إلى الطريق إلى الثورة.. يا معاشر الجهلة..”.. وصمت الجميع..
ومضت خمسة أيام أخرى ولم يكن أحد يتقدم ليحرق نفسه.. حتى اجتمعنا قيادة الثورة لنقرر من سيحرق نفسه.. وبعد دراسة طويلة واستشارات عقيمة دامت لأكثر من عشر دقائق قررنا أن نحرق أحدهم وكان هذا الأحدهم هو صبحي الشحاذ.. فهو شحاذ ومجنون وحرقه لن يؤثر على شيء..
وبالفعل تم القبض على صبحي الشحاذ في الساحة نفسها وهو يتسوّل بنصف ثياب، وتم وضعه في منتصف الساحة بعد أن تم رمي قنينة المازوت عليه.. إلا أن اللعين لم يحترق لأنه لم يكن يلبس شيئاً بل وضع ثيابه أمامه وأشعلها وأخذ يتدفأ بها.. وخسرنا ليتر المازوت ولم يقبل أحد في القرية أن يتبرع مرة أخرى للمازوت..
“حسناً..” قال أبو حسين.. “لنحرق كلباً.. فالكلاب كثيرة في هذه القرية ولن يؤذي أحد إن قمنا بحرق أحدها..” صفقنا له كثيرا لذكائه، وانطلقت دورية من جنود الثورة للبحث عن كلب، وبعد مضي ساعة أحضروا كلباً أجرباً وكدنا أن نحرقه لولا أن اعترض العجوز مارديكيان قائلاً: هذا كلب أجرب.. لا يليق بنا أن نحرق كلباً أجرباً.. “مي حلوة مشان سمعتنا.. بيقولوا حرقوا كلب أجرب..” فلنبحث عن كلب أشد بأساً وقوة..
في نهاية النهار كنا قد حصلنا على كلب قوي البنية.. ذكر.. كما طلب العجوز تماماً.. ووضعناه في وسط القرية لنحرقه.. لكن ذا النظارة السميكة اللعين ابن أبو اللعين قفز إلى الكلب وأطلقه.. وصرخ بنا: “ماذا سيقولون أبناء القرى خلف الجبال عنا.. ماذا ستقول عنا جميعات حقوق الإنسان وحقوق الحيوان.. عيب.. عيب.. لا يجوز.. ما شأن هذا الكلب المسكين حتى نحرقه من أجل ثورة لا يفهمها ولا شأن له بها..” .
وعبثاً حاولنا إقناعه بأن هذا الكلب هو جزء من هذه الثورة لأن عيشته مثل عيشتنا.. لكننا قررنا في النهاية أن نحرق خروفاً.. وبالفعل قمنا بذبح خروف من خراف المختار في مساء اليوم التالي وأقمنا وليمة بالمناسبة أكلنا وشبعنا من لحمه لأول مرة..
(6)
الحرس
بعد عدة أيام جاءت قوى مكافحة الشعب وبدأت بضرب المواطنين فما كان من الناس إلا أن قاموا بالرد عليهم بالعصي والهراوات وسقط الكثير منا ومنهم في ساحة المختار – أقصد ساحة الحرية – حتى هربوا إلى قصر المختار، وفي ذلك المساء قمنا بنصب الخيم في الساحة وانتشر الباعة المتجولون وأصحاب البسطات في الساحة وتحولت الساحة إلى سوق شعبي تجد فيه كل أنواع الأطعمة والملابس والبزر..
وتناقلت قوى المعارضة الشعبية الحقيقية التي كانت مؤلفة مني ومن أبي حدو وأبي صبحي وأبي علي وأبي إلياس والعجوز مارديكيان أنباء عن هروب المختار إلى قرية خلف الجبل وبأن بيت المختار وقصره فارغان تماماً.. وبالمناسبة أصدقائي هؤلاء هم شركائي في لعبة الورق “التريكس” ولطالما كنا نلعب الورق معاً في المقهى لذلك فنحن نعرف بعضنا جيداً.
(7)
الآخرون
جلسنا نحن الستة لنضع دستوراً جديداً للقرية عوضاً عن الدستور القديم.. دستور واضح – وميزته أنه واضح – لا يأكل حق أحد ولا يعطي أحدا أفضلية على أحد لا أحد فوقه ولا أحد تحته.. ولأنني لم يكن لي دراية بمثل هذه الأمور فقد قررت أن أتخذ ثلاثة ممثلين ممن درسوا في المدينة ليقوموا بوضع الدستور بالنيابة عني وكذلك فعل كل من أبي حسين وأبي صبحي وأبي علي وأبي إلياس والعجوز مارديكيان، لكن الشباب الثلاثة قرروا بأن عائلتنا وعائلة نسيبنا “أبو صبحي” تمثل أكثرية الشعب لذا قرروا أن التمثيل في مختارية القرية سيكون محصوراً بي وبه وبأبناء جلدتنا، الأمر الذي لم يعجب بقية أصدقائي في الثورة، وقد ذكروني بالنقاط “الحمراء والخضراء وتلك الصفراء” التي قمنا بوضعها مسبقاً يوم الخميس الماضي.. إلا أن الشباب ردوا عليهم بكلمة “طز”.. فقرر أصدقائي الانشقاق عني..
ولكي لا يقوم البقية بالانقلاب فقد قرر الشباب تصفيتهم وتصفية كل من يحاول الوقوف ضدنا.. والحقيقة فقد كنت خائفاً جداً على مكتسبات الثورة لذا قررت الذهاب مع الشباب في هذه الطريق.
(8)
المقصلة
في اليوم التالي قامت كل فئة بنصب مسرح لها في القسم الخاص بها في الساحة.. ساحة الحرية.. وتمت توجيه تهمة التآمر إلى “أبي علي” بصفة أن لعائلته صلة قرابة مع عائلة “المختار” السابق المخلوع رغم نفيه بأن لا علاقة له بذلك إلا أن الحقد الشعبي ضد عائلة المختار تجاوز كل حد ولم يكن أحد يقبل كلامي بأن لا علاقة لهم بذلك المخلوع.. وبالفعل تم طرد أبو علي وأبناؤه من القسم الخاص بنا في الساحة وقامت مناوشات بين شبابنا وشباب عائلة أبي علي انتهت بضرب معظمهم بالهراوات مع بعض الخسائر من طرفنا..
في اليوم الذي يليه تمت توجيه تهمة “العمالة لجهات راديكالية خارجية” لـ”أبي حسين” و”أبي إلياس” معاً وتم القبض عليهم ثم تم القبض على كل من قام بالدفاع عنهما في الساحة وضربهم أمام الجميع فوق المسرح الخاص بنا رغم أن الاثنين كانا من حلفائي في لعبة الورق “التريكس” لمدة طويلة ولم يحدث أن خانني أي منهما، وقد كان أبو حسين يصرخ قائلاً: “الدين لله والقرية للجميع”.. لكن لم يكن أحد يفهم ما كان يقوله لتزايد الحقد الشعبي ضد الآخرين.
العجوز مارديكيان في اليوم نفسه أعلن بأنه لا يرغب بأي تمثيل في “هيئة مختارية القرية” وبأنه جاهز ليدين بالولاء لأي جهة تتبوأ مقام المختارية.. ونظراً لذلك قررنا نحن “مجلس الثورة الجديد” أن نفرض عليهم “الجزية” لأنهم “مختلفون” عنا..
(9)
الثورة المضادة
في اليوم الخمسين للثورة قام كل من أبناء أبي علي وأبي حسين وأبي إلياس بالثورة ضدنا مطالبين بحقهم في هيئة مختارية القرية.. ولأننا كنا أكثرية فقد رفضنا ذلك ونشبت معركة عنيفة في الأيام الخمسة التي تليها خسرنا الكثير من الدماء وخسروا هم الكثير..
وفي كل ليلة بعد الانتهاء من المعركة كنا ننسل إلى وادي القرية أنا وأبو علي وبقية الشباب نلعب الورق “التريكس” ونصرخ بوجه بعضنا البعض كعادتنا ويرمي كل منا الآخر بالغش والخديعة والحيلة أثناء اللعبة بطبيعة اللعبة.. وفي كل “برتية”(*) كان شريكي في اللعبة يختلف فمرة كان أبو علي شريكي ومرة أبو إلياس وهكذا.. وبعد أن ننتهي من اللعبة كنا نتبادل الضحك ويعود كلٌّ منا إلى قسمه في الساحة لنبدأ القتال في اليوم التالي.
(10)
النهاية
بعد مضي سنة على الثورة وارتفاع عدد الخسائر يومياً أصبح الشعب يتململ من الثورة ومدى جدوائيتها.. خصوصاً بعد أن انقلب الأصدقاء إلى أعداء وأصبح أولاد العم يتنازعون فيما بينهم.. ولم تعد سهرات “المتة” والضحك موجودة.. وطالبت الناس بالتوقف عن الثورة والعودة إلى منازلنا والتوقف عن ضرب بعضنا البعض.. بعد ذلك قررت أنا وأبو صبحي أن نلقي القبض على (ابن أبو حدو) وصاحب البدلة البنية وأبي النظارة السميكة والثلاثة القائمون على الدستور وتأديبهم لأنهم كانوا السبب في فشل هذه الثورة..
وبالفعل قمنا في اليوم التالي بالقبض عليهم وضربهم ضرباً مبرحاً في وسط الساحة وطردهم من القرية.. ثم قمنا بتشكيل لجنة استعطاف قمنا بإرسالها إلى القرية خلف الجبال لتطلب من المختار السابق العودة إلى مركزه.. لكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً.. لكننا ولأننا مؤمنون بحقنا بوضع من نريد راعياً على قطيعنا أقصد راعياً على مصالحنا استمرينا بإرسال الوفود إليه حتى قبل العودة بعد سنة ونصف مشكوراً ليتبوأ منصبه مرة أخرى..
وعندما عاد اجتمعنا فيه في “ساحة المختار” مرة أخرى.. وأخذنا ننادي بالشعارات “بالروح بالدم نفديك يا مختار”.. “بالروح بالدم نفديك يا مختار”..
(*) برتية ورق: في اللهجة العامية تعني لعبة ورق جديدة.. أو ليترجمها من يستطيع أن يترجمها أفضل مني