٢٧‏/٠٩‏/٢٠٠٩

بعد الموت..ماذا يكتب الأحياء على شواهد قبور شعرائنا الراحلين?!

لاشك أن الكلمات التي تقال عن الانسان بعد رحيله ماهي إلا ترجمة أعماله في كلمات بعد أن تطوى صفحات أيامه.

وبعد الموت الحق يقول الناس أقوال ضمائرهم الحرة لا أقوال ألسنتهم, إذْ تنقطع العداوة بذهاب من كان عدواً, وتخلص معاني الصداقة بفقد الصديق, ويرتفع الحسد بموت المحسود, وتبطل المجاملة والنفاق الاجتماعي باختفاء من كانوا يجاملونه ويتمسحون بأعتابه كقطط سيامية, ومن هنا كان الموت أصدق وأتم مايعرّف الناس بالناس.‏

وكانت الكلمة بعده عن الميت خالصة مصفاة لايشوبها كذب الدنيا على إنسانها, ولاكذب الإنسان على دنياه, وهي الكلمة التي لاتقال إلا في النهاية, ومن أجل ذلك تجيء وفيها نهاية ماتضمر النفس للنفس, على حد تعبير الأديب الخالد مصطفى صادق الرافعي(انظر مجلة الرسالة العدد 202)‏

الكتابة على شواهد القبور من أقدم العادات الإنسانية ,ويكتبها أصحابها إما قبل وفاتهم, وإما تكتب بعد موتهم, ويعتقد البعض بأنه ينبغي على الانسان أن يكتب شاهدة قبره بنفسه ويختار العبارات التي تناسب شخصيته.‏

وصية المعري‏

كان رهين المحابس الثلاثة: المعري قد أوصى ان ينقش البيت التالي على شاهدة قبره:‏

هذا ما جناه أبي عليّ

وما جنيت على أحد!‏

فلم تحقق أية جهة وصيته, ولاندري اذا كان هذا البيت مكتوبا على الشاهدة فاقتلعها خصومه الذين حكموا عليه بالزندقة.. المهم فإن صحيفة (الثورة) قامت بتحقيق وصية المعري بعد مرور مئات السنين على وفاته , حيث كلفتُ وزميلي الصحافي الراحل حيدر علي, رحمه الله, بنقل لوحة رخامية تقاوم عوامل الطبيعة وعاديات الزمن, كتب عليها البيت الشعري الذي أشرنا إليه, وعلقت اللوحة الرخامية بجانب الضريح.‏

>وصية المجاهد فخري البارودي:‏

كان البارودي قد أوصى أن تكتب هذه الابيات على شاهدة قبره في مقبرة الباب الصغير بدمشق فنفذت وصيته:‏

قفوا أيها الزوار قربي هنيهة‏

وقولوا سلاما أيها الميت الحر‏

وطوفوا حيال القبر صحبي وفكروا‏

بموت أكيد ثم يتبعه حشر‏

تروا أن كأس الموت حق على الورى‏

وكل له يوم وإن ألّف العمر‏

>ماكتبه الشاعر محمد الماغوط‏

على ضريح زوجته:‏

هنا ترقد‏

آخر طفلة في التاريخ‏

الشاعرة الغالية‏

سنية صالح‏

>ماكتبه الشاعر نزار قباني على ضريح ابنه‏

أتوفيق كيف أصدق موت العصافير والأغنيات‏

وأن الجبين المسافر بين الكواكب مات‏

وأن الذي كان يخزن ماء البحار بعينيه مات‏

بأي اللغات سأبكي عليك?‏

وموتك ألغى جميع اللغات‏

>ماكُتب على ضريح نزار قباني‏

إن إلى ربك الرجعى‏

مثوى‏

فقيد الشعر العربي‏

نزار قباني‏


ماكتب على ضريح اللغوي يوسف الصيداوي‏

مرقد المرحوم‏

اللغوي العلامة الاستاذ‏

يوسف الصيداوي‏

صاحب كتاب الكفاف‏

تعقيب المحرر: الكفاف كتاب يعيد صوغ قواعد اللغة العربية.

ماكُتب على ضريح محمد مهدي الجواهري‏

كُتب على ضريحه وفي زوايا مختلفة منه, العديد من الابيات الشعرية المفردة, التي نظمها في أوقات مختلفة.‏

لكن القصيدة التي استحوذت على الشاهدة حملت اسم (يادجلة الخير) ومنها نختار هذه الابيات التي نظمها الشاعر في براغ شتاء عام 1962:‏

حَيّيتُ سفحكِ عن بعدٍ فحييني يادجلة الخير, ياأمَّ البساتين‏

حييتُ سفحك ظمآنا ألوذ به‏

لوذَ الحمائم بين الماء والطين‏

يادجلة الخير يانبعاً أفارقهُ‏

على الكراهة بين الحين والحين‏

هنا بعيداً عن دجلة الخير يرقد‏

محمد مهدي الجواهري‏

شاعر العرب الأكبر‏

1899-1997م‏

وفي مقبرة السيدة زينب يكتب الشاعر الجواهري على شاهدة ضريح شقيقته هذه المقطوعة الشعرية التي نختار منها:‏

حبيبتي نبيهة‏

/نبيهة/إن الليالي ملعبه‏

ونحن فيها /طابة ومضربه‏

رهن الليالي كيف مادارت بنا‏

كعقرب /الساعة/ رهن الذبذبة‏

حبيبتي /نبيهة/ كيف ذوت‏

معجلة بسمتك المحببة?‏

حبيبتي/نبيهة/ سنلتقي‏

عما قليل عند هذي المتربه‏

أخوك محمد مهدي الجواهري‏

وبعد هذه الجولة في مقابر دمشق.. وجدنا أن الانسان وحده هو الذي ابتدع طقوس دفن الموتى كعزاء للأحياء, وهو وحده الذي دأب على التخفيف من وطأة مرارة الموت التي تنتظر الجميع,كأن الموت مكافأة الحياة الكبرى, والسلامة لنا ولكم.


هاني الخير -- صحيفة الثورة السورية

مقاطع من قصيدة محمد مهدي الجواهري في العيد الثلاثين لاستقلال سوريا - دمشق 1976

دمشق يا جبهة المجد

شممتُ تربَكِ

لا زُلفى ولا مَلقا

وسِرتُ قصدَكِ لا خِبّاً

ولا مَذِقا

وما وجدتُ إلى لقياكِ منعطَفاً

إلا إليكِ

وما ألفيـتُ مُفْتَرَقا

كنتِ الطريقَ إلى هاوٍ

تـنازعهُ نفسٌ

تسدُ عليه دونَها الطُّرقا

وكان قلبي

إلى رؤياكِ باصِرَتي

حتى اتَّهمتُ عليكِ العينَ والحَدَقا

شممت تربك

أستافُ الصِّبا مَرِحاً

والشملَ مؤتَلِفاً والعقدَ مؤتَلِقـا

وسرتُ قصدك

لا كالمشتهي بلداً

لكنْ كَمَنْ يشتهي وجهَ من عشقا

قالوا "دمشق" و"بغداد"

فقلتُ هما فجرٌ على الغدِ

من أمسَيْهما انْبثقا

ما تعجبون؟

أمِنْ مَهْدينِ قد جُمعا؟

أم توأمينِ على عَهدَيْهِما اتفقا؟
أم صامدَينِ

يرُبّـان المصير معاً

حُبَّـاً

ويقتسمانِ الأمنَ والفُرَقا
يُهدهِدان لساناً واحداً ودماً صنواً

ومُعتقداً حُراً ومنطَلَقا
أقسمت بالأمة اسْتوصَى بها قدرٌ

خيراً

ولاءمَ منها الخَلق والخُلقا
من قال

أن ليس من معنى للفظتها بلا دمشقَ وبغدادٍ

فقد صدَقا
فلا رعى الله يوماً دُسّ بينهما

وقيعةٌ

ورعى يَوميهُما ووَقا
يا جلَّق الشام

والأعوام تجمع لي سبعاً وسبعين

ما التاما ولا افترقا
ما كان لي منهما يومانِ عشتهما

إلا وبالسؤر

من كأسيهما شرقا
يعاودان نفاراً كلَّما اصْطحبا

وينسيان هوىً كانا قد اغْتبقا
ورحت أطفو على موجَيهما

قلِقاً

أكاد أحسُد مرءاً فيهما غرقا
ياللشباب

يغارُ الحلمُ من شرةٍ

به وتحسد فيه الحنكةُ النزقا
وللبساطة

ما أغلى كنائزها

قارونُ يرخص فيها التبرَ والورِقا
تلمُّ كأسي ومن أهوى وخاطرتي

وما تجيْشُ

وبيتَ الشِّعر والورَقا
أيام نعكف بالحسنى

على سمرٍ نُساقط اللَّغو فيه

كيفما اتفقا
إذْ مِسكةُ الرَّبَواتِ الخضْرِ

توْسِعُنا بما تفتَّق من أنسامِها عَبِقا
إذ تسقط الهامةُ الإصباحُ يُرقِصُنا

وقاسيونُ علينا ينشر الشَّفَقا
نرعى الأصيل لداجي الليل

يسْلمنا

ومِن كُوى خفَراتٍ نَرْقب الغسقا
ومِن كُوى خفراتٍ

تسْتجِدُّ رؤىً

نشوانةً عن رؤىً مملولةٍ نسَقا
آهٍ على الحلو

في مُرٍ نغصُّ به

تقطَّرا عسلاً في السُّمِّ واصطفقا
يا جلق الشام

إنا خلقة عجب

لم يدر ما سِرُّها إلا الذي خلقا
إنا لنخنقُ في الأضلاع غربتـَنا

وإنْ تزلَّت على أحداقنا حَرَقا
معذَّبون وجنَّاتُ النَّعيم بنا

وعاطشون ونمري الجونة الغدقا
وزاحفون بأجسامٍ

نوابضُها تستامُ ذروة عليَّين مرتفقا
نغني الحياة ونستغني

كأن لنا رأدَ الضُّحى غلةً والصبحَ والفلقا
يا جلق الشام

كم من مطمَحٍ خلسٍ للمرء

في غفلة من دهره سُرقا
وآخرٍ سُلّ من أنياب ذي لبدٍ

وآخرٍ تحت أقدام له سُحقا
دامٍ صراعُ أخي شجوٍ

وما خلقا من الهموم

تعنِّيه وما اختلقا
يسعى إلى مَطمَحٍ حانتْ ولادتُه

في حينِ يحمِل شلْواً مطمَحاً شنقا
حرَّان حيران أقوى في مصامدة على السكوت

وخيرٌ منه إن نطقا
كذاك كلُّ الذين استودعوا مثُلاً

كذاك كلُّ الذين استرهنوا غلقا
كذاك كان وما ينفك ذو كلفٍ

بمن تعبَّد في الدنيا أو انْعتقا
دمشق عشتك

ريعاناً وخافقةً ولمّةً والعيونَ السودَ والأرقا
وها أنا

ويدي جلْدٌ

وسالفتي ثلجٌ

ووجهيَ عظمٌ كاد أو عرقا
وأنتِ لم تبرَحي

في النَّفس عالقةٌ

دمي ولحميَ والأنفاسَ والرَّمقا
تموِّجين ظلالَ الذِّكريات هوىً وتسعدين الأسى والهمَّ والقلقا
فخراً دمشق

تقاسمنا مراهقة

واليومَ نقتسمُ الآلامَ والرَّهقا
دمشق صبراً على البلوى

فكم صُهِرتْ سبائكُ الذَّهب الغالي فما احترقا
على المدى والعروق الطُّهر

يرفدنا نسغُ الحياة بديلاً عن دمٍ هُرِقا
وعند أعوادك الخضراءِ

بهجتُها كالسِّنديانة مهما اسَّاقطتْ ورقا
من العراق

من الأرض التي ائتلقتْ والشام

إلفاً فما ملاَّ ولا افترقا
يا جبهة المجد ألقتْ كربة ظللاً من الشحوب

عليها زدنها ألقا
مرَّت يدٌ بَرَّةٌ فوق العروق بها

تميط عنها الأسى والجهد والعرقا
كمثل أرضِكِ

تمتدُّ السَّماء بها مهمومة

ترقب الفجرَ الذي انطلقا
أسيانةً

كم تلقت بين أذرعها

نجماً هوى إثرَ نجمٍ صاعدٍ خفقا
مَصارعٌ تستقي الفادين تربتُها

في كل شهر مشى فادٍ بها وسقى
يا بنت أمِّ البلايا

عانقت نسباً أعلى وأكرمَ في الأنساب

معتنقا
راحتْ تمزِّق كلَّ الهازئين بها

وحولك اسَّاقَطَت

مهزوزةً مُزَقا
كنتِ الكفوءَ لها إذْ كنتِ مَعتَركاً لسوحها

فِرقاً جرارةً فِرقاً
تيمور خفَّ وهولاكو

وقد سَحقا كلَّ الدُّنى

وعلى أسوارِك انْسَحقا
ماكنتِ أعتى ولا أقوى سوى دُفَعٍ من الرجولات

كانت عندها لعقا
حبُّ الحياة تغشَّاه

فكان له صداقُها الذلَّ والإسفافَ والخرقا
تَخالَفَ الحكمَ فرداً

لا ضميرَ له إذا استدار

ولا ناهٍ إذا مرقا
ومُجمعين تواصَوا بينهم

شَرَعاً على الحفاظ وساووا أمرَهم طبقا
دمشق

كم في حنايا الصدر من غَصَصٍ

لو لم ندفْها بمُرِّ الصَّبر لاخْتنقا
صُبَّت ثلاثون لم تدرِ الصَّباحُ بها سود الليالي

ولم تكشف بها أفقا
هُنَّا عليها فشدَّتْنا بسلسلةٍ

من الكوارث لم تستكملِ الحلقا
جاعت لقحط مُفَادَاةٍ بها

وعدتْ واستنجدتْ صاعَها والمئزرَ الخلقا
ونحن نُطْعِمُها حلوَ البيان رُؤىً

والفخرَ مُتـَّشحاً

والوعدَ مرتزقا
شممت تربك لا زلفى ولا ملقا

وسرت قصدك لا خبا ولا مذقا