٢٣‏/٠٦‏/٢٠٠٨

والد طبيب الأسنان ... بقلم : آرا سوفاليان

والد طبيب الأسنان ... بقلم : آرا سوفاليان

في إحدى محافظاتنا الشرقية البعيدة كانت هناك عيادة لطبيب أسنان فيها مواصفات صاحبها،عيادة أنيقة نظيفة رشيقة صادقة مخلصة وفي وسطها نبع صغير يجود بالكبرياء والشهامة لتصحيح حالة انحراف اجتماعي معمم.


دخل غرّ العيادة ووقف أمام طاولة المساعدة ويديه خلف ظهره، وعرَّف عن نفسه بأنه سائق فلان وأن معلمه في السيارة وأنه يريد مقابلة الطبيب فأجابته المساعدة أن الطبيب مشغول الآن ولا يمكنه مقابلة أحد... قال لها أنه لا يستطيع الانتظار فأجابته أن هناك مائة عيادة أخرى في المحافظة ... فقال لها أعرف ولكن معلمي لا يعرف... وتعالت الأصوات وخرج الطبيب بقفازين مدميين.

ـ ماذا في الأمر

ـ يريد مقابلتك

ـ بل معلمي هو الذي يريد مقابلته

ـ أهلاً وسهلاً أنا في انتظاره

ـ لا لا لا أرجو أنت تخرج أنت إليه

ـ أخرج أنت إلى معلمك وقل له أن الطبيب لا يخرج لملاقاة أحد كائن من كان.

وذهب السائق وعاد ومعه اثنان الثاني معروف جداً في المحافظة فهو يعمل في المالية ويشغل منصب مدير قسم التكليف الضريبي ويخشاه الجميع ويتمنون رضاه يفسح الطريق لرجل آخر يلبس طقماً أسود اللون، ويشد عنقه بربطة عنق متنافرة الألوان وشعر مصبوغ بعشر طبقات من الصباغ الأسود الفاحم والدوائر السوداء حول العينين تحكي قصة السهر وما يصاحب السهر.

ـ لا يمكنك الدخول إلى غرفة المعاينة هكذا أيها السيد بدون إذن الطبيب

ـ ابتعدي عن طريقي أيتها العجيّة... وقالها بنبرة حادة وبصوت مرتفع

فيخرج الطبيب مضطراً لمجابهة الموقف المهين الذي تم حشره فيه ما بين غرفة العلاج وغرفة الانتظار المليئة بالمراجعين، وانبرى مدير قسم التكليف الضريبي للتصدي للإجراء المشين والتصرف الغير لائق الذي نال من هيبته أمام وليّ نعمته وسيده الذي كان ينظر بقرف واشمئزاز وكأنه في مكان أقل شأناً بكثير من مقام جنابه الرفيع.

قال أبو التكليف الضريبي: دعنا يا دكتور ندخل غرفة المعاينة لنتحدث

فأجابه الدكتور: لا يمكنني إدخال مريض على مريض لأن من واجبي احترام المرضى وحقوقهم ومعاملتهم بنفس السوية والقدر، ولا يوجد في الداخل إلاَّ كرسي واحد.

قال أبو التكليف الضريبي: حسناً حسناً يا دكتور لقد كنا في اجتماع مع معلمنا سيادة الأخ أبو فلان عندما أحس سيادته بألم حاد في الأسنان واقترحت على سيادته أن نحضر إلى عيادتكم لقربها ولمس موعياتكم العالية، فلقد شكر منكم أبو فلان وزكاكم أبو فلان

ـ أهلاً وسهلاً تفضلوا ارتاحوا ... أرجو أن يكون لديكم الوقت للانتظار فلدي حالة إسعافية في الداخل.

ونظر أبو فلان الذي يقف خلف أبو التكليف الضريبي في عيني الطبيب نظرة لا تخلو من الاحتقار فلقد كان يتوقع أن يعمد الطبيب إلى طرد كل المرضى وتفريغ العيادة وتسخير من بقي من أهلها لخدمته فمد يده وأشار برأسه إلى أبو التكليف الضريبي أن هيا بنا نغادر وعاد ينظر إلى الطبيب مكرراً نفس النظرة السابقة المشفوعة بالتعالي.

قال الطبيب: أما دخولكم إن حدث فهو يتوقف أيضاً على السماح لكم بالدخول من قبل صاحب الدور التالي باعتبار أن الحالة التالية للحالة التي في الداخل هي حالة إسعافية أيضاً.

وخرج الثلاثة في ترتيب خاطئ الثالث وهو السائق وهو في المؤخرة والثاني وهو في الوسط وهو سيادته والثالث في المقدمة يتملق ويتمسح ويعتذر ويتمرغ وينظر إلى الخلف يتهدد ويتوعد ويكور أصابعه الخمسة المجتمعة عن طريق جمع نهاياتها بما معناه سنتحاسب أيها السيد (أنا بورجيك)

وعاد الطبيب إلى عمله وتلقى مكالمة تهديد من مدير التكليف الضريبي يعده فيها بالقدوم إلى العيادة شخصياً في اليوم التالي للمحاسبة.

وجاء في اليوم التالي وبيده أمر تكليف بأربعة أضعاف رقم التكليف الضريبي السابق مختوم وموقع وجاهز لضربة لا تستثني أحد دون أن يكون هناك من يستطيع حماية أحد من أحد، ودون أن يتمكن أحد من الاعتراض على التسبب في أذية أحد عن طريق التحطط على هذا الأحد الذي لا يجرؤ على حمايته أحد، لأن الجواب على الاعتراض هو غالباً يكون في مضاعفة التكليف الأخير وبتوصية من هذا الأحد.

وكانت مساعدة الطبيب هي المساعدة العائدة لفترة بعد الظهر وهي لا تعرف هذا الأحد لأنها لم تحضر الحفل الفني الصباحي الذي حدث بالأمس.

فاقتربت منه وبدون أن تسأله وضعت في يده ورقة أنيقة فيها رقم دور وهو الرقــ15ـم فضحك وقال لها: أنا لست مريض بل أريد أن أتحدث إلى الطبيب.

قالت له: إذا تفضل أجلس سأخبره ولكن أرجو أن أعرف اسم حضرتك فقال لها قولي له أبو فلان.

وذهبت المساعدة وجلس الرجل بين المرضى ونظر إلى يساره فشاهد رجل متقدم في العمر يجلس وبيده ورقة دور أنيقة تحمل الرقـــ10ــم فسلم عليه وسأله كيفك يا أبو فلان وماذا تفعل هنا،

فأجابه : وماذا يفعل المريض لدى طبيب الأسنان غير علاج أسنانه ،

فقال له : ورقمك عشرة ، فأجابه الرجل بالإيجاب وهز رأسه هزة واحدة إلى الأسفل.

فقال مدير التكليف: ألم تجد أفضل من هذا الطبيب لمعالجة أسنانك فأجاب الرجل بالنفي وهز رأسه مرة واحدة نحو الأعلى،

فسأله الرجل : ولماذا

فأجابه : وهل هناك من هو أفضل من ابنك ليتولى معالجتك، وهل تتوقع أن أذهب للمعالجة لدى طبيب أسنان آخر غير ابني وابني طبيب أسنان.

وامتقع وجه مدير التكليف الضريبي وتغير من اصفر إلى أحمر إلى أزرق ونظر في وجه والد الطبيب وقال له : أنت والد الطبيب ورقمك عشرة!

فأجابه : نعم والد الطبيب ورقمي عشرة.

وخرج الطبيب في نفس اللحظة وقال لمدير التكليف الضريبي الذي شعر بحاجة ملحّة للتكييف في تلك العيادة الحارة التي تقع في محافظة حارة.

أهلاً وسهلاً بأبو فلان أرجو أن تعطيني التبليغ لأوقع عليه على الفور لأن القاعدة معروفة فأنا لن أعترض عليه ولا وقت لديّ لفعل ذلك ... ولن تكلفني المسألة إلاَّ المزيد من الجد لمواجهة أذيتكم لي.

فقال مدير التكليف: عفواً لا يوجد أي تكليف جديد فلقد مررت بالصدفة ورأيت الضوء ينبعث من العيادة فأحببت أن أدخل لمجرد إلقاء التحية.

فأجابه الطبيب: ولكنك اتصلت بي مهدداً ومتوعداً وأنك بصدد تكليف ضريبي جديد يعلمني احترام الناس ويؤدي إلى تأديبي بل وتأديب كل المكلفين بي.

فأجابه مدير التكليف الضريبي: لقد صممت على فعل ذلك لأكتشف بعد حضوري إلى هنا أنك تستطيع تأديب سكان هذه المحافظة جميعاً وأنا أولهم وعن جدارة، وأرجو أن تتقبل اعتذاري أمام والدكم الكريم و أرجو من والدكم الكريم أن يتقبل تهنئتي له بهذا الإعداد وهذه التربية، لعل الله يهبنا الكثير من أمثال هذا الوالد وعلى شاكلة هذا الابن وفي هذا كل الخير لهذا البلد الأمين فيجود عليه تعالى ببعض الينابيع التي تجود بالكبرياء والشهامة لتصحيح حالة انحراف اجتماعي معمم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق