٣٠‏/٠٧‏/٢٠٠٩

خمسُ رسائل إلى أمي - نزار قباني

خمسُ رسائل إلى أمي - نزار قباني


صباح الخير … يا حلوة

صباح الخير … يا قديستي الحلوة

مضى عامان يا أمي

على الولد الذي أبحر

برحلته الخرافية

وخبأ في حقائبه

صباح بلاده الأخضر

وأنجمها، وانهرها، وكل شقيقها الأحمر

وخبأ في ملابسه

طرابيناً من النعناع والزعتر

وليلكةً دمشقيةً

* * * *

2

أنا وحدي

دخان سجائري يضجر

ومني مقعدي يضجر

وأحزاني عصافيرٌ

تفتش – بعدُ – عن بيدر

عرفت نساء أوروبا

عرفت عواطف الإسمنت والخشب

عرفت حضارة التعب

وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر

ولم أعثر

على امرأة تمشط شعري الأشقر

وتحمل في حقيبتها

إليَّ عرائس السكر

وتكسوني إذا أعرى

أيا أمي

أيا أمي

أنا الولد الذي أبحر

ولا زالت بخاطره

تعيش عروسة السكر

فكيف … فكيف يا أمي

غدوت أباً

ولم أكبر

* * * * *

3

صباح الخير، من مدريد

ما أخبارها الفلة ؟

بها أوصيك يا أماه

تلك الطفلة الطفلة

فقد كانت أحب حبيبة لأبي

يدللها كطفلته

ويدعوها إلى فنجان قهوته

ويسقيها

ويطعمها

ويغمرها برحمته

ومات أبي

ولا زالت تعيش بحلم عودته

وتبحث عنه في أرجاء غرفته

وتسأل عن عباءته

وتسأل عن جريدته

وتسأل - حين يأتي الصيف

عن فيروز عينيه

لتنثر فوق كفيه

دنانيراً من الذهب

* * * * *

4

سلاماتٌ .

سلاماتٌ .

إلى بيت سقانا الحب والرحمة

إلى أزهارك البيضاء … فرحة (ساحة النجمة)

إلى تختي

إلى كتبي

إلى أطفال حارتنا

وحيطان ملأناها

بفوضى من كتابتنا

إلى قطط كسولات

تنام على مشارفنا

وليلكةٍ معرشةٍ

على شباك جارتنا

مضى عامان … يا أمي

ووجه دمشقَ،

عصفور يخربش في جوانحنا

يعض على ستائرنا

وينقرنا

برفق من أصابعنا

مضى عامان … يا أمي

وليل دمشقَ

فلُّ دمشقَ

تسكن في خواطرنا

مآذنها … تضيئ على مراكبنا

كأنَّ مىذن الأموي

قد زرعت بداخلنا

كأنَّ مشاتل التفاح

تعبق في ضمائرنا

كأنَّ الضوء والأحجار

جاءت كلها معنا

5

أتى أيلول أماه

وجاء الحزن يحمل لي هداياه

ويترك عند نافذتي

مدامعهُ وشكواهُ

أتى أيلول … أين دمشق ؟

أين أبي وعيناه

وأين حرير نظرته ؟

وأين عبير قهوته ؟

سقى الرحمن مثواه .

وأين رحاب منزلنا الكبير

وأين نعماه ؟

وأين مدارج الشمشير

تضحك في زواياه

وأين طفولتي فيه ؟

أجرجر ذيل قطته

وآكل من عريشته

وأقطف من (بنفشاه).

دمشق . دمشق .

يا شعراً

على حدقات أعيننا كتبناه

ويا طفلاً جميلاً

من ضفائره صلبناه

جثونا عند ركبته

وذبنا في محبته

الى انف محبتنا ... قتلناه


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق