ما بين مصر و«حزب الله»، ومنذ ثلاث سنوات، سجال علني وحرب بالوكالة. إنها فصول تتلاحق في المواجهة المصرية ـ الإيرانية على امتداد المنطقة. القاهرة توجّه اتّهامات وإهانات الى قائد المقاومة اللبنانية، وهو يردّ بعبارات من العيار الثقيل، وإسرائيل في النهاية هي المستفيد الأول. هذه المرة بنيامين نتنياهو هو الذي يضحك ومهمّته في واشنطن الشهر المقبل لن تكون صعبة. يكفي أن يحمل معه الصحف المصرية كي يدعم وجهة نظره القائلة: التسوية يفترض أن تنتظر، والأولويّة لـ«حزب الله» و«حماس» وإيران.
بدايات السجال كانت كالآتي:
نصر الله: الموقف المصري هو حجر الزاوية في ما يجري في غزّة. يا ضباط وجنود القوّات المسلّحة المصرية أنتم ما زلتم على أصالتكم العروبية وعلى موقفكم المعادي للصهاينة. إضغطوا على القيادة السياسية لفتح المعبر.
أبو الغيط: أحدهم ممن تحدّثوا بالأمس طالب شعب مصر بالنزول الى الشارع وإحداث حالة من الفوضى في مصر، مثلما خلقوا هذه الفوضى في بلادهم... كما تحدّث الى القوّات المسلّحة المصرية مطالباً إياها بالتمرّد. هذا الشخص لا يعي من أمره شيئاً، ولا يعي أن هذه القوّات هي قوّات شرعية للدفاع عن مصر، وأقول له هيهات، لأن هذه القوّات شريفة وقادرة على الدفاع عن هذا الوطن ضد أمثالك. ومتوجّهاً الى نصر الله من دون أن يسمّيه قائلاً: أنت ترغب في الفوضى في هذا الإقليم خدمة لمصالح ليست في مصلحة أهل الإقليم.
وفي مقابلة مع التلفزيون المصري قال أبو الغيط: إن «حزب الله» دمّر لبنان في حرب العام ٢٠٠٦، وصواريخ الكاتيوشا والقذائف الصاروخية التي يستخدمها لا تضاهي ما يملكه الجيش المصري. وسأل: هل تعرف ما هي القوّات المسلّحة المصرية؟ هل هي ١٥ صاروخاً من نوع كاتيوشا أو ٨٠ مدفعاً من نوع «آر بي جي»؟ إن القوّات المصرية أكبر من كل من يتحدّث عنها.
هكذا بدأت، لكن لهذه البداية بدايات أخرى. البداية المكشوفة كانت في العام ٢٠٠٦ حين وجّهت القاهرة انتقادات صريحة الى الحزب تتهمه بالتهوّر، وتحمّله بصورة مباشرة مسؤولية اندلاع الحرب على لبنان. وقد تم في حينه احتواء الموضوع باتصالات جرت بين «حزب الله» والسفارة المصرية في بيروت. في هذه الاتصالات، ذهبت القاهرة الى أبعد، إذ دعت قيادات «حزب الله» الى زيارة مصر والتعرّف عن قرب الى وجهة النظر المصرية من حرب تموز (يوليو) ٢٠٠٦ ومن حرب غزّة، والموقف الرسمي المصري بكل أبعاده السياسية والأمنيّة والاستراتيجية، لكن قيادة الحزب رأت أن الوقت لم يحن بعد لتلبية هذه الدعوة، فسكنت الأمور على زغل من دون تطبيع.
ومن أين يأتي الزغل؟
إنه يأتي من مصادر متعدّدة لعل أهمّها: القطيعة التي تتواصل منذ ما يقرب الثلاثين سنة بين القاهرة وطهران منذ انتصار الثورة الخمينية. منذ ذلك التاريخ و«تطبيع التباعد» يفرض نفسه شعاراً في العلاقات الثنائية. في شرح أسباب هذا التباعد قيل إن القاهرة عاتبة بسبب تركيز لوحة جدارية في أحد شوارع العاصمة الإيرانية تحمل اسم خالد الإسلامبولي، أحد المتّهمين الرئيسيين في اغتيال الرئيس أنور السادات. وقيل إن ضريح شاه إيران في القاهرة هو السبب. قيل أيضاً إن مصر تشترط لإعادة الوصل حلّ قضية الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلّها إيران منذ أربعة عقود، الى جانب ملفّات أمنيّة وسياسية أخرى أبرزها الملف النووي الإيراني وطموحات طهران الإقليمية.
بعض هذه الاجتهادات سقط من تلقاء نفسه، عندما شارك الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في القمّة الخليجية في الدوحة، وطرح على القادة الخليجيين الحاضرين مبادرة شاملة للتقارب تتضمّن ١٢ اقتراحاً، ودعاهم الى زيارة طهران من أجل مناقشتها. الرد الخليجي لم يكن سلبياً، بدليل أن دول مجلس التعاون تريّثت في الاستجابة لمطالبة روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي باعتبار إيران مصدر التهديد الأول لدول المنطقة (بدلاً من إسرائيل)، وأكدت أهميّة التواصل مع إيران بالنسبة الى الأمن الخليجي. في تلك المرحلة، توقّع عدد غير قليل من المراقبين أن تعيد مصر علاقاتها مع إيران انسجاماً مع الموقف الخليجي، إلا أنها لم تفعل.
لماذا؟ ببساطة، لأن القاهرة قلقة من دور إيران الإقليمي الآخذ في التوسّع، وقلقة أيضاً من اعتراف أميركي محتمل بهذا الدور. فالنفوذ الإيراني في العراق يبدو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، وهو أقوى من نفوذ الولايات المتحدة، وفي واشنطن من يرى أن القاهرة عاجزة عن الوصول الى هذا المستوى من التأثير. والنفوذ الإيراني لا يقتصر على العراق، ويمكن تلمّسه بوضوح كامل في لبنان كما في فلسطين المحتلّة وبعض دول الخليج. وبسهولة يمكن ملاحظة أن مصر لا تملك خطة محدّدة وهادفة لمواجهة التوسّع الإيراني، وأن تعاملها مع هذا التوسّع يقتصر على ردود الفعل، في حين أن إيران تمسك بزمام المبادرة. وفي ظل هذا الوضع، تبدو المعارك السياسية التي تخوضها القاهرة، بأشكال مختلفة، محدودة التأثير وعشوائية الى حد بعيد، وبسبب عشوائيّتها فهي تؤدّي في معظم الحالات الى نتائج عكسية تفيد منها إيران.
ويقول العارفون إن معارك القاهرة «الصغيرة» لا تساعد كثيراً على تحسين العلاقات، لا سيما وأن هناك اتجاهين في طهران: الأول يريد ترميم العلاقات، ويتحرّك فعلاً في هذا الاتجاه منذ أواخر الثمانينيات، أي منذ انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية. والاتجاه المناوئ يعمل على تخريب أي جهد يقوم به المعتدلون لتنقية الأجواء، وكل مشكلة تفتعلها القاهرة تعيق جهود الفريق الحواري.
هذا الارث التاريخي من اللاودّ بين القاهرة وطهران، أكبر بطبيعة الحال من قضية التنظيم الأصولي الموالي لـ«حزب الله» في مصر، بدليل أن السلطات المصرية سبق أن ضبطت في السنوات الأخيرة تنظيمات مشابهة من دون أن تعلن عنها، تفادياً لمزيد من الأزمات مع إيران. هذه المرة، تعمّدت الاعلان وإعداد مضبطة اتّهام ضد الحزب، وكأنها لم تغفر بعد للسيد حسن نصر الله دعوته للجيش المصري الى «الخروج على النظام». أمر آخر لم تغفره القاهرة هو تنامي العلاقة بين طهران وجماعة الإخوان المسلمين وحركة «حماس». وخلال زيارات خالد مشعل الأخيرة لطهران حرص على الاشادة بالدعم الإيراني لغزّة في معرض التأكيد على هذا التقارب، وهذا يعني أن النفوذ الإيراني داخل مصر مرشّح للتوسّع، ويرجّح أن تكون الانتقادات الحادّة التي وجّهتها إيران الى الرئيس المصري حسني مبارك قد لقيت صداها لدى الإخوان المصريين. واقتناع القاهرة أنه إذا نجحت إيران في توثيق علاقاتها مع «الإخوان»، فإن النفوذ الإيراني سوف يكسب مساحة أكبر على امتداد العالم العربي.
ومعروف أن القاهرة تشكّك منذ فترة طويلة بعلاقة الإخوان مع طهران، وهي علاقة تتمظهر في الدعم الذي تلقاه «حماس»، وعندما يقول مشعل في إيران إنها لعبت دوراً كبيراً في انتصار أهالي غزّة، وإنها شريك في هذا الانتصار، فإن لهذا الكلام أبعاداً خطرة في نظر المسؤولين المصريين.
الى هذه المسألة، لا بدّ من إضافة قضية أخرى قد تكون في المستوى نفسه من الأهميّة، وهي حملة «التشيّع» التي يشكو منها المسؤولون المصريون ومؤيّدوهم. ولهذه الشكوى بعد تاريخي أيضاً، لأن المصريين أكثر تقبّلاً للفكر الشيعي من غيرهم من السنّة، وأحد الأسباب هو حكم الأسرة الفاطمية الذي عرفته مصر في القرن العاشر. وقد تركت فترة الخلافة الفاطمية داخل مصر انفتاحاً على الممارسات الشيعية وتقاليدها، وهي حالة ليست موجودة في العالم السنّي الكبير. على سبيل المثال، يؤمن المصريون بأن الحسين (ع) الإمام الشيعي الثالث وأسرته دفنوا في القاهرة وليس في كربلاء (العراق)، وأن مدافن الحسين (ع) والسيدة زينب (شقيقته) والسيدة سكينة (ابنته) هي الأماكن الأكثر قدسيّة في الإسلام بعد مكة والمدينة المنوّرة. وكما يفعل الشيعة، فإن كثيرين من السنّة في القاهرة يؤدّون طقوس عاشوراء في ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) كل عام. وفي السنوات الأخيرة تتكرّر الشكوى المصرية من تصاعد المد الشيعي وظاهرة التشيّع، مما حمل الحكومة المصرية ووسائل الاعلام الرسمية على شنّ حملة ضد الرموز الشيعية. وليس سرّاً أن العالم الديني البارز الشيخ يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين حذّر من «المد الشيعي» والأنشطة التبشيرية الشيعية خصوصاً في مصر، ومما قاله: إن تزايد عمليات تسلّل المذهب الشيعي في مصر، قد يؤدّي الى حرب أهليّة مثل تلك التي يشهدها العراق. ولا توجد إحصاءات حول عدد الشيعة المصريين. مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية يقدّر أن الشيعة يشكّلون أقلّ من واحد في المئة من الشعب المصري، إلا أن محمد الدريني، وهو سنّي اعتنق المذهب الشيعي، يقدّر هذا العدد بمليون ونصف مليون.
نصل الى السجال الأخير. هذا السجال أحدث تصاعداً في حدّة التوتّر بين مصر و«حزب الله» على خلفيّة اعتقال أحد عناصر الحزب، ومعه خليّة من ٤٩ شخصاً ينتمون الى أربع دول عربية دخلوا مصر بطريق غير شرعية، واستخدموا جوازات سفر مزوّرة، وأسماء حركيّة بهدف تضليل أجهزة الأمن، وبعضهم عن طريق الأنفاق بين مصر والقطاع. ويقول المصريون إن القيادي في «حزب الله» محمد قبلان واسمه الحركي «محمود»، أقام في مصر بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ للبدء في تجهيز واستقطاب «العناصر الارهابية» (التعبير للمصدر المصري)، وأن خطة الحزب التخريبية اعتمدت إرسال عناصر على دفعات لتنفيذ عملياتها في الموعد المحدّد. استمر ذلك الى أن وقعت حرب غزّة، وتم الدفع مرة أخرى بقيادي اخر من «حزب الله» هو محمد يوسف منصور الذي استخدم اسماً حركياً هو «أبو يوسف»، وهو من الضاحية الجنوبية في بيروت، ليقود المخطط التخريبي داخل مصر، وكان يحمل جواز سفر مزوّراً.
الأمين العام لـ«حزب الله» أقرّ بأن سامي شهاب الذي اعتقلته السلطات المصرية أخيراً عضو في الحزب، وكان يقدّم دعماً لوجستياً لفلسطينيي غزّة، معتبراً أن الادانة هنا يفترض أن توجّه الى النظام المصري، لكنه نفى أن يكون لدى الحزب أي مخطّط تخريبي، وأضاف: إن الأخ سامي تعامل مع عدد قليل من الأفراد يصل الى عشرة، ولا يملك الحزب معلومات حول باقي المعتقلين. وأضاف: إذا كانت مساعدة الفلسطينيين المحتلّة أرضهم والمشرّدين جريمة، فأنا أعلن رسمياً أنني أعترف بهذه الجريمة، فهي ذنب لا نستغفر منه بل نتقرّب به الى الله، وليست هذه أول مرة يتم فيها القبض على عناصر من «حزب الله» يحاولون تقديم مساعدة للفلسطينيين.
الرواية المصرية مختلفة تماماً، وهي تسوق على لسان النائب العام الاتّهامات الآتية:
< تأسيس مشاريع تجارية لاتّخاذها سائراً لتنفيذ عمليات ضد الأمن المصري.
< مسح القرى والمدن على الحدود المصرية ـ الفلسطينية.
< استئجار بعض العقارات المطلّة على المجرى الملاحي لقناة السويس لرصد السفن التي تعبر القناة.
< رصد المنشآت والقرى السياحية في محافظتي شمال وجنوب سيناء.
< توفير كميّات من المفرقعات وإعداد العبوات المفرقعة.
< تزوير جوازات السفر والبطاقات الشخصية واستئجار الشقق والسيارات اللازمة لتحرّك عناصر التنظيم.
< استئجار شقق مفروشة في بعض الأحياء الراقية واستخدامها لاجتماعات عناصر «حزب الله»، وعقد الدورات التدريبية لعناصر التنظيم.
< نشر الفكر الشيعي داخل مصر.
وفي انتظار أن تنتهي النيابة العامة المصرية من ترتيب أوراق المحاكمة، يميل عدد من المراقبين الى أن ملف مصر مع «حزب الله» بدأ سياسياً وانتهى قضائياً، بسبب تداخل مشاكل غزّة مع المعادلة المصرية الأمنيّة، وتشابك عدد من القضايا المطروحة وأبرزها علاقات «حماس» بإيران بـ«حزب الله» وبالإخوان المسلمين، الأمر الذي يعطّل الرؤية على المديين القريب والمتوسط. وفي أي حال، فإن الأزمة الحالية تصبّ كلّها في مصلحة إسرائيل، وبصورة خاصة في مصلحة حكومة نتنياهو الجديدة. في هذا السياق تقول «هآرتس» إن من شأنها أن تعزّز التعاون الاستخباري والتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية والمصرية.
أكثر من ذلك، يرجّح المعلّق العسكري للصحيفة عاموس هارئيل، أن تكون الأجهزة الأمنيّة المصرية قد نجحت في إلقاء القبض على المجموعة بناءً لمعلومات تلقّتها من الاستخبارات الإسرائيلية، بدليل أن الكشف عن الخليّة جاء في ذروة تعاون أمني بين تل أبيب والقاهرة في مجال الكشف عن أنفاق التهريب بين إسرائيل وقطاع غزّة.
من جهته، اعتبر حنان كريستال المعلّق السياسي في قناة التلفزيون الأولى والاذاعة الإسرائيلية، أن السجال بين «حزب الله» ومصر «فرصة ذهبية» لحكومة نتنياهو، لأنه يصرف الأنظار عن الطابع المتطرّف لهذه الحكومة، ومواقفها من القضية الفلسطينية التي لا تلقى قبولاً دولياً. ومما قاله: منذ أن تشكّلت الحكومة تصدّرت جدول الاهتمام العالمي تصريحات وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان المثيرة للسخرية، أما الآن وفي ظل الأزمة، فإن في وسع نتنياهو أن يكسب شرعية لحكومته، بعد أن ينجح في خياطة فم ليبرمان كي تبقى الأضواء مسلّطة على مصر و«حزب الله».
عن مجلة "المشاهد السياسي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق